كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)} والدُّخان: ما ارتفع مِنْ لَهَبِ النار، ويُسْتعار لِما يُرى مِنْ بخارِ الأرضِ عند جَدْبِها. وقياسُ جَمْعِه في القلةِ: أَدْخِنة، وفي الكثرة: دِخْنان نحو غُراب وأَغْرِبة وغِربان، وشذُّوا في جَمْعِه على دواخِن. قيل: هو جمعُ داخِنة تقديرًا على سبيلِ الإِسناد المجازيِّ. ومثله: عُثان وعَواثِن.
قوله: {وهي دُخانٌ} من باب التشبيهِ الصُّوري؛ لأن صورتِها صورةُ الدخان في رأي العَيْنِ.
قوله: {أَتَيْنا} قرأ العامَّةُ {ائْتِيا} أمرًا من الإِتْيان، {قالتا أَتَيْنا} منه أيضًا. وقرأ ابنُ عباس وابنُ جبير ومجاهدٌ: {آتِيا قالتا آتَيْنا} بالمدِّ فيهما. وفيه وجهان، أحدُهما: أنه من المُؤَاتاة، وهي الموافَقَةُ أي: ليوافِقْ كلٌّ منكما الأخرى لِما يليقُ بها، وإليه ذهب الرازي والزمخشري. فوزنُ {آتِيا} فاعِلا كقاتِلا، و{آتَيْنا} وزنُه فاعَلْنا كقاتَلْنا.
والثاني: أنَّه من الإِيْتاء بمعنى الإِعطاء، فوزنُ آتِيا أَفْعِلا كأَكْرِما، ووزن آتَيْنا أَفْعَلْنا كأَكْرَمْنا. فعلى الأول يكونُ قد حَذَفَ مفعولًا، وعلى الثاني يكونُ قد حَذَفَ مفعولَيْن إذ التقدير: أَعْطِيا الطاعةَ مِنْ أنفسكما مَنْ أَمَرَكما. قالتا: أَعْطَيْناه الطاعة.
وقد مَنَع أبو الفضل الرازيُّ الوجهَ الثاني. فقال: {آتَيْنا} بالمَدِّ على فاعَلْنا من المُؤاتاة، بمعنى سارَعْنا، على حَذْفِ المفعولِ به، ولا تكونُ من الإِيتاء الذي هو الإِعطاءُ لبُعْدِ حَذْفِ مفعولَيْه.
قلت: وهذا هو الذي مَنَعَ الزمخشريِّ أَنْ يَجْعَلَه من الإِيتاء.
قوله: {طَوْعًا أو كَرْهًا} مصدران في موضعِ الحال أي: طائِعتين أو مُكْرَهَتَيْن. وقرأ الأعمشُ {كُرْهًا} بالضم. وقد تقدَّم الكلامُ على ذلك في النساء.
قوله: {قالتا} أي: قالَتِ السماء والأرض. وقال ابنُ عطية: أراد الفرقتَيْن المذكورتَيْن. جَعَلَ السماواتِ سماءً، والأرضين أرضًا، وهو نحوُ قولِ الشاعر:
ألم يُحْزِنْكَ أنَّ حبالَ قومي ** وقومِك قد تبايَنَتا انْقِطاعا

عَبَّر عنهما بتَباينتا. قال الشيخ: وليس كما ذَكَر؛ لأنه لم يتقدَّمْ إلاَّ ذِكْرُ الأرضِ مفردةً والسماءِ مفردةً، فلذلك حَسُن التعبيرُ بالتثنيةِ. وأمَّا البيتُ فكأنه قال: حَبْلَيْ قومي وقومِك، وأنَّثَ في تبايَنَتا على المعنى لأنه عنى بالحبالِ المودَّة.
قوله: {طائِعِين} في مجيئِه مجيءَ جَمْعِ المذكرِين العقلاءِ وجهان، أحدهما: أنَّ المرادَ: أَتيا بمَنْ فيهما من العقلاء وغيرِهم، فلذلك غَلَّب العقلاءَ على غيرِهم، وهو رَأْيُ الكسائيِّ. والثاني: أنه لمَّا عامَلهما معاملةَ العقلاء في الإِخبارِ عنهما والأمرِ لهما جُمِعا كجَمْعِهم، كقولِه: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] وهل هذه المحاوَرَةُ حقيقةٌ أو مجازٌ؟ وإذا كانت مجازًا فهل هو تمثيلٌ أو تخييلٌ؟ خلافٌ.
{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)}.
قوله: {سَبْعَ}: في نصبه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مفعولٌ ثانٍ ل {قَضاهُنَّ}؛ لأنه ضُمِّن معنى صَيَّرهُنَّ بقضائِه سبعَ سماواتٍ.
والثاني: أنَّه منصوبٌ على الحالِ مِنْ مفعولِ {قَضاهُنَّ} أي: قضاهُنَّ معدودةً، وقضى بمعنى صَنَع، كقولِ أبي ذؤيب:
وعليهما مَسْرُوْدتان قَضاهما ** داوُدُ أو صَنَعُ السَّوابغِ تُبَّعُ

أي: صَنَعهما. الثالث: أنه تمييزٌ. قال الزمخشري: ويجوزُ أَنْ يكونَ ضميرًا مبهمًا مُفَسَّرًا بسبعِ سماوات على التمييز يعني بقولِه مبهمًا أنَّه لا يعودُ على السماء لا من حيث اللفظُ ولا مِنْ حيث المعنى، بخلاف كونِه حالًا أو مفعولًا ثانيًا. الرابع: أنه بدلٌ مِنْ هُنَّ في {فقَضاهُنَّ} قاله مكي. وقال أيضًا: السَّماء تذكَّرُ وتؤنَّثُ. وعلى التأنيثِ جاء القرآن، ولو جاء على التذكير لقيل: سبعة سماوات. وقد تقدَّم تحقيقُ تذكيرِه وتأنيثِه في أوائل البقرة.
قوله: {وحِفْظًا} في نصبه وجهان، أحدهما: أنه منصوبٌ على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ، أي: وحَفِظْناها بالثواقب من الكواكِبِ حِفْظًا. والثاني: أنه مَفْعولٌ مِنْ أجله على المعنى، فإنَّ التقديرَ: خلقنا الكواكبَ زينةً وحِفْظًا. قال الشيخ: وهو تكلُّفٌ وعُدولٌ عن السَّهْلِ البيِّنِ.
{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)}.
قوله: {فَإِنْ أَعْرَضُواْ}: التفاتٌ مِنْ خطابِهم بقولِه: {قل أئِنَّكم} إلى الغَيْبة لفِعْلهِم الإِعراضَ أعرضَ عن خطابِهم، وهو تناسُبٌ حَسَنٌ. وقرأ الجمهورُ {صاعقَةً مثلَ صاعقةِ} بالألفِ فيهما. وابن الزبير والنخعي والسلمي وابن محيصن {صَعْقَةً مثلَ صَعْقة} بحَذْفِها وسكونِ العين. وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك في أوائلِ البقرة. يقال: صَعَقَتْه الصاعقةُ فصَعِقَ، وهذا مما جاء فيه فَعَلْته- بالفتح- ففَعِل بالكسر، ومثله جَدَعْتُه فَجَدِعَ. والصَّعْقَةُ المَرَّة.
{إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14)}.
قوله: {إِذْ جَاءَتْهُمُ}: فيه أوجهٌ، أحدها: أنه ظرفٌ ل {أَنْذَرْتُكم} نحو: لَقِيْتُك إذ كان كذا. الثاني: أنه منصوبٌ بصاعقةٍ لأنَّها بمعنى العذاب أي: أنذرتُكم العذابَ الواقعَ في وقتِ مجيْءِ رسُلِهم. الثالث: أنه صفةٌ ل {صاعِقَة} الأولى. الرابع: أنه حالٌ من {صاعقة} الثانية، قالهما أبو البقاء وفيهما نظرٌ؛ إذ الظاهرُ أنَّ الصَّاعقةَ جثةٌ وهي قطعةُ نارٍ تَنْزِلُ من السماء فتحرقُ، كما تقدَّمَ في تفسيرِها أولَ هذا التصنيفِ؛ فلا يقعُ الزمانُ صفةً لها ولا حالًا عنها، وتأويلُها بمعنى العذابِ إخراجٌ لها عن مدلولِها مِنْ غيرِ ضرورةٍ، وإنما جعلَها وَصْفًا للأولى لأنها نكرةٌ، وحالًا مِن الثانية لأنها معرفةٌ لإِضافتها إلى عَلَم، ولو جعلها حالًا من الأولى؛ لأنها تخَصَّصَتْ بالإِضافةِ لجاز فتعودُ الوجوهُ خمسةً.
قوله: {مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} الظاهرُ أنَّ الضميرَيْن عائدان على عادٍ وثمود. وقيل: الضميرُ في {خَلْفِهم} يعودُ على الرسلِ. واسْتُبْعِد هذا من حيث المعنى؛ إذ يصير التقديرُ: جاءتهم الرسلُ مِنْ خَلْفِ الرسلِ، أي: مِنْ خَلْفِ أنفسِهم. وقد يُجاب عنه: بأنَّه مِنْ باب دِرْهمٌ ونصفُه أي: ومن خَلْفِ رسُلٍ آخرين.
قوله: {أَلاَّ تعبدوا} يجوزُ في أَنْ ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أَنْ تكونَ المخففةَ من الثقيلة، واسمُها ضميرُ الشأن محذوفٌ، والجملةُ النَّهْيِيةُ بعدها خبرٌ، كذا أعربه الشيخُ. وفيه نظرٌ مِنْ وجهين:
أحدهما: أنَّ المخففةَ لا تقع بعد فِعْل إلاَّ مِنْ أفعال اليقين.
الثاني: أنَّ الخبرَ في بابِ إنَّ وأخواتِها لا يكون طلبًا، فإنْ وَرَدَ منه شيءٌ أُوِّلَ ولذلك تأوَّلوا قولَ الشاعرِ:
إنَّ الذينَ قَتَلْتُمْ أمسِ سَيِّدَهُمْ ** لا تَحْسَبُوا ليلَهم عن ليلِكم ناما

وقول الآخر:
ولو أصابَتْ لقالَتْ وَهْيَ صادِقةٌ ** إنَّ الرِّياضَةَ لا تُنْصِبْكَ للشِّيْبِ

على إضمارِ القولِ.
الثاني: أنها الناصبةُ للمضارعِ، والجملةُ النَّهْييةُ بعدها صلتُها وُصِلَتْ بالنهي كما تُوْصَلُ بالأمر في كَتبتُ إليه بأنْ قُمْ، وقد مَرَّ في وَصْلِها بالأمرِ إشكالٌ يأتي مثلُه في النهي.
الثالث: أَنْ تكونَ مفسِّرَةً لمجيئِهم لأنه يتضمَّنُ قولًا، ولا في هذه الأوجهِ كلِّها ناهيةٌ، ويجوزُ أَنْ تكونَ نافيةً على الوجهِ الثاني، ويكون الفعلُ منصوبًا ب أنْ بعد لا النافية، فإنَّ لا النافيةَ لا تمنعُ العاملَ أَنْ يعملَ فيما بعدها نحو: جئتُ بلا زيدٍ، ولم يذكرْ الحوفي غيرَه.
قوله: {لو شاءَ} قدَّر الزمخشريُّ مفعولَ {شاء}: لو شاءَ إرسالَ الرسلِ لأَنْزَلَ ملائكةً. قال الشيخ: تَتَبَّعْتُ القرآنَ وكلامَ العربِ فلم أَجِدْ حَذْفَ مفعولِ {شاء} الواقع بعد {لو} إلاَّ مِنْ جنسِ جوابِها نحو: {وَلَوْ شَاءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى} [الأنعام: 35] أي: لو شاءَ جَمْعَهم على الهدى لجَمَعهم عليه، {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} [الواقعة: 65] {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} [الواقعة: 70] {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ} [يونس: 99] {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112] {لَوْ شَاءَ الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ} [النحل: 35]. وقال الشاعر:
فلو شاءَ ربِّي كنتُ قيسَ بنَ خالدٍ ** ولو شاءَ ربي كنتُ قيسَ بنَ مَرْثدِ

وقال الراجز:
واللذِ لو شاءَ لكنْتُ صَخْرًا ** أو جَبَلًا أشمَّ مُشْمَخِرَّا

قال: فعلَى ما تقرَّر لا يكونُ المحذوفُ ما قدَّره الزمخشريُّ، وإنما التقديرُ: لو شاء ربُّنا إنزالَ ملائكةٍ بالرسالةِ منه إلى الإِنسِ لأَنْزَلهم بها إليهم، وهذا أَبْلَغُ في الامتناع من إرسالِ البشرِ، إذ عَلَّقوا ذلك بإنزال الملائكة، وهو لم يَشَأْ ذلك فكيف يشاء ذلك في البشر؟ قلت: وتقديرُ أبي القاسم أوقَعُ معنىً وأخلصُ من إيقاع الظاهرِ موقعَ المضمرِ؛ إذ يَصيرُ التقديرُ: لو شاءَ إنزالَ ملائكةٍ لأنزلَ ملائكةً.
قوله: {بِمَا أرْسِلْتُمْ بِهِ} هذا خطابٌ لهودٍ وصالحٍ وغيرِهم مِن الأنبياءِ عليهم السلام، وغَلَّب المخاطبَ على الغائبِ نحو: أنت وزيدٌ تقومان.
و{ما} يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً بمعنى الذي وعائدُها به، وأنْ تكونَ مصدريةً أي: بإرسالِكم، فعلى هذا يكون {به} يعودُ على ذلك المصدرِ المؤولِ، ويكون من بابِ التأكيد كأنه قيل: كافرون بإرسالِكم به.
{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)}.
قوله: {صَرْصَرًا}: الصَّرْصَرُ: الريحُ الشديدة فقيل: هي الباردةُ مِن الصِّرِّ، وهو البردُ. وقيل: هي الشديدةُ السَّمومِ. وقيل هي المُصَوِّتَةُ، مِنْ صَرَّ البابُ أي: سُمِع صريرُه. والصَّرَّة: الصَّيْحَةُ. ومنه: {فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ} [الذاريات: 29]. قال ابن قتيبة: {صَرْصَر}: يجوزُ أَنْ يكونَ من الصِّرِّ وهو البردُ، وأَنْ يكونَ مِنْ صَرَّ البابُ، وأَنْ تكونَ من الصَّرَّة، وهي الصيحةُ، ومنه: {فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ} [الذاريات: 29]. وقال الراغب: {صَرْصَر} لفظة من الصِّرِّ، وذلك يرجِعُ إلى الشَّدِّ لِما في البرودة من التعقُّدِ.
قوله: {نَحِساتٍ} قرأ الكوفيون وابن عامر بكسرِ الحاءِ، والباقون بسكونِها. فأمَّا الكسرُ فهو صفةٌ على فَعِل، وفعلُه فَعِل بكسرِ العين أيضًا كفِعْلِهِ يقال: نَحِس فهو نَحِسٌ كفَرِح فهو فَرِحٌ، وأَشِرَ فهو أَشِرٌ. وأمال الليث عن الكسائي ألفَه لأجل الكسرةِ، ولكنه غيرُ مشهورٍ عنه، حتى نسبه الدانيُّ للوَهْم.
وأمَّا قراءةُ الإِسكانِ فتحتملُ ثلاثةَ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ يكونَ مخففًا مِنْ فَعِل في القراءةِ المتقدمةِ، وفيه توافُقُ القراءتين. والثاني: أنَّه مصدرٌ وُصِفَ به كرجلٍ عَدْلٍ. إلاَّ أنَّ هذا يُضْعِفُه الجمعُ فإنَّ الفصيحَ في المصدرِ الموصوفِ أَنْ يُوَحَّدَ، وكأنَّ المُسَوِّغَ للجمع اختلافُ أنواعِه في الأصل. والثالث: أنه صفةٌ مستقلةٌ على فَعْل بسكونِ العينِ. ولكن أهلَ التصريفِ لم يذكروا في الصفةِ الجائيةِ مِنْ فَعِلَ بكسرِ العين، إلاَّ أوزانًا محصورةً ليس فيها فَعْل بالسكونِ فذكروا: فَرِحَ فهو فَرِحٌ، وحَوِرَ فهو أحورُ، وشَبعَ فهو شبعانُ، وسَلِمَ فهو سالمٌ، وبَلي فهو بالٍ.
وفي معنى {نَحِسات} قولان، أحدهما: أنها مِن الشُّؤْم. قال السدِّي: أي: مشائيم مِن النَّحْسِ المعروف. والثاني: أنها شديدةُ البردِ. وأنشدوا على المعنى الأول قولَ الشاعرِ:
يَوْمَيْنِ غَيْمَيْنِ ويومًا شَمْسا ** نَجْمَيْنِ سَعْدَيْنِ ونجمًا نَحْسا

وعلى المعنى الثاني قولَ الآخرِ:
كأنَّ سُلافَةً عُرِضَتْ لنَحْسٍ ** يُحِيْلُ شَفيفُها الماءَ الزُّلالا

ومنه:
قد أَغْتدي قبلَ طُلوعِ الشمسِ ** للصيدِ في يومٍ قليلِ النَّحْسِ

وقيل: يُريدُ به في هذا البيت الغبارَ أي: قليلِ الغبار، وقد قيل بذلك في الآيةِ أنها ذاتُ غُبارٍ. و{نَحِسات} نعتٌ لأيَّام، والجمعُ بالألفِ والتاءِ مُطَّرِدٌ في صفةِ ما لا يَعْقِلُ كأيامٍ معدوداتٍ. وقد تقدَّم تحقيقُه في البقرة.
و{لِنُذِيْقَهُمْ} متعلِّقٌ ب {أَرْسَلْنا}.
وقُرِئ {لِتُذِيقَهم} بالتاءِ مِنْ فوقُ. وفي الضمير قولان، أحدهما: أنه الريحُ أي: لتذيقَهم الريحُ أو الأيَّامُ على سبيل المجاز. وعذاب الخِزْيِ من إضافةِ الموصوفِ لصفتِه، ولذلك قال: {وَلَعَذَابُ الآخرة أخزى} فإنه يَقْتضِي المشاركةَ وزيادةً. وإسنادُ الخِزْيِ إلى العذابِ مجازٌ لأنه سَبُبه.
{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17)}.
قوله: {وَأَمَّا ثَمُودُ}: الجمهورُ على رَفْعِه ممنوعَ الصرفِ. والأعمشُ وابنُ وثَّاب مصروفًا، وكذلك كلُّ ما في القرآن إلاَّ قولَه: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة} [الإسراء: 59] قالوا: لأنَّ الرسم ثمود بغير ألفٍ. وقرأ ابنُ عباس وابنُ أبي إسحاق والأعمش في روايةٍ، وعاصمٌ في رواية {ثمود} منصوبًا مصروفًا. والحسن وابنُ هرمز وعاصمٌ أيضًا منصوبًا غيرَ منصرفٍ. فأمَّا الصرفُ وعَدَمُه فقد تقدَّمَ توجيهُهُما في هود. وأمَّا الرفعُ فعلى الابتداء، والجملةُ بعده الخبرُ، وهو مُتَعَيّنٌ عند الجمهورِ؛ لأنَّ {أمَّا} لا يليها إلاَّ المبتدأُ فلا يجوزُ فيما بعدها الاشتغالُ إلاَّ في قليلٍ كهذه القراءةِ، وإذا قَدَّرْتَ الفعلَ الناصبَ فقدِّرْه بعد الاسمِ المنصوبِ أي: وأمَّا ثمودَ هَدَيْناهم فهَدَيْناهم قالوا: لأنها لا يَليها الأفعالُ.
{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19)}.
قوله: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ}: العاملُ في هذا الظرفِ فيه وجهان، أحدُهما: محذوفٌ دَلَّ عليه ما بعدَه مِنْ قولِه: {فهم يُوْزَعُون} تقديره: يُسَاقُ الناسُ يومَ يُحْشَر. وقَدَّرَه أبو البقاء: يُمْنَعون يومَ الحَشْرِ. الثاني: أنه منصوبٌ ب اذْكُرْ أي: اذكُرْ يومَ. وقرأ نافع {نَحْشُرُ} بنونِ العظمة وضمِّ الشين.
{أعداءَ} نصبًا أي: نَحْشُر نحن. والباقون بياءِ الغَيْبة مضمومةً، والشينُ مفتوحةٌ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه، و{أعداءُ} رفعًا لقيامِه مقامَ الفاعلِ. وكَسَر الأعرجُ شين {نَحْشِر} وحتى غايةٌ ل {يُحْشَر}.
{وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22)}.
قوله: {أَن يَشْهَدَ}: يجوزُ فيه أوجهٌ، أحدها: مِنْ أَنْ يَشْهدَ. الثاني: خيفةَ أن يَشْهد. الثالث: لأَجْلِ أَنْ يَشْهد، وكلاهما بمعنى المفعول له. الرابع: عن أَنْ تَشْهَدَ أي: ما كنتم تَمْتَنِعون، ولا يُمْكِنُكم الاختفاءُ عن أعضائِكم والاستتارُ عنها. الخامس: أنه ضُمِّن معنى الظنِّ وفيه بُعْدٌ.
{وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)}.
قوله: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ}: فيه أوجهٌ، أحدها: أنَّ {ظنُّكم} خبرُه، و{الذي ظَنَنْتُمْ} نعتُه، و{أَرْدَاكم} حالٌ وقد معه مقدرةٌ على رَأْيِ الجمهورِ خلافًا للأخفشِ. ومَنْعُ مكيّ الحاليةَ للخلوِّ مِنْ قد ممنوعٌ لِما ذكرْتُه. الثاني: أَنْ يكونَ {ظنُّكم} بدلًا والموصولُ خبرُه. و{أَرْدَاكم} حالٌ أيضًا. الثالث: أَنْ يكونَ الموصولُ خبرًا ثانيًا. الرابع: أَنْ يكونَ {ظَنُّكم} بدلًا أو بيانًا، والموصول هو الخبر، و{أَرْداكم} خبرٌ ثانٍ. الخامس: أن يكون {ظَنُّكم} والموصولُ والجملةُ مِنْ {أَرْداكم} أخبارًا. إلاَّ أنَّ الشيخ رَدَّ على الزمخشري قوله: {وظنُّكم} و{أَرْدَاكم} خبران. قال: لأنَّ قوله: {وذلكم} إشارةٌ إلى ظَنِّهم السابقِ فيصير التقديرُ: وظَنُّكم بربكم أنه لا يعلم ظنُّكم بربكم، فاسْتُفيد من الخبر ما اسْتُفيد من المبتدأ وهو لا يجوزُ، وهذا نظيرُ ما منعه النحاةُ مِنْ قولك: سَيِّدُ الجارية مالِكُها.